الطعاموالشراب حاجتان أساسيّتان لا يمكن الاستغناء عنها مهما كانت الأحوالوالأوضاع ، فهما سرّ الحياة ، ومن أعظم النعم التي امتنّ الله بها علىعباده ، ووجّه الأنظار إليها في كثير من الآيات القرآنية ، للعظة والعبرة، والشكر والامتنان ، قال تعالى: { فلينظر الإِنسان إلى طعامه * أنَّاصببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فِيها حبا * وعنبا وقضبا* وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وَأبا * متاعا لكم ولأنعامكم }(عبس:24-23) .
وقد جاء الهدي النبوي فوضع لهذا المظهر الإنسانيجملةً من الآداب التي ترفع من قيمة المسلم ، وتحقّق له التميّز على بقيّةالشعوب والأمم.
وأول من يُذكر في هذا الباب ، القاعدة النبويّةالعظيمة التي قرّرها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بقوله: ( ما ملأابن آدم وعاءً شرا من بطن ، بحسب ابن آدم لقيماتٍ يقمن صلبه ، فإن كان لابد فاعلا ، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ) أخرجه أحمد و الترمذي ،فالمهم إذاً أن يجد الإنسان ما يحفظ له حياته ، لا أن يكون تناول الطعاموتنويعه هدفاً بحدّ ذاته .
وقد حرص النبي – صلى الله عليه وسلمعلى تطبيق ذلك ، فلم يكن يكثر من تناول الطعام ويتتبّع أنواعه ، بل كانتتمرّ عليه الأيام الطويلة دون أن يُطبخ في بيوت نسائه شيء ، ويكتفي بالخبزالذي كان أكثر أكله .
وكان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -غسل اليدين قبل الطعام وبعده، فقد قال: – صلى الله عليه وسلم- ( من ناموفي يده ريح غمر وأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه ) رواه أبو داود ، ومعنى(الغمر ) : دسم ووسخ ، وغيرهما من الشحوم .
أما عن صفة جلوسه – صلىالله عليه وسلم – على مائدة الطعام فقدكان يجثو على ركبتيه عند الأكل ، أويَنصِبُ رجله اليمنى ويجلس على اليسرى، فعن أنس رضي الله عنه قال: " رأيتالنبي – صلى الله عليه وسلم – جالساً مقعياً يأكل تمراً " رواه مسلم .
وكانالنبي – صلى الله عليه وسلم – يأكل على الأرض ولا يتّخذ مائدة ، فقد روىابن عباس رضي الله عنه فقال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلسعلى الأرض ويأكل على الأرض ، رواه الطبراني .
وكان عليه الصلاةوالسلام لا يأكل متكئاً ، فقد قال – صلى الله عليه وسلم - : ( لا آكلمتكئاً ) رواه البخاري ومعنى ( المتكئ ): هو المعتمد على الوِسادة تحته .
وكانلا يأكل – صلى الله عليه وسلم – منبطحاً، ومعنى ( منبطحاً ): أي مستلقياًعلى بطنه ووجهه ، فقد جاء النهي عن ذلك ،كما روى ذلك ابن ماجة .
وكانمن هديه – صلى الله عليه وسلم – في هذا الشأن أنه يسمي الله تعالى في أولطعامه ويحمده في آخره ، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى اللهعليه وسلم - قال : ( إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله ، فإن نسي أن يذكر اسمالله في أوله فليقل بسم الله أوله وآخره ) رواه أبو داود ، وعند الفراغ منالطعام يقول : : ( الحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه ، غير مَكْفِي – أيلا يستغني عنه الخلق - ، ولا مودّع ولا مستغنى عنه ربنا ) رواه البخاري ،ويقول : ( الحمد لله الذي كفانا وأروانا ، غير مكفيّ ولا مكفور ) رواهالبخاري ، ويقول : ( الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين ) رواهابن ماجة ، ويقول : ( اللهم أطعمت وأسقيت ، وأغنيت وأقنيت ، وهديت وأحييت، فلك الحمد على ما أعطيت ) رواه النسائي ، ويقول : ( الحمد لله الذي أطعموسقى ، وسَوّغه وجعل له مخرجاً ) رواه أبو داود ، ويقول : ( الحمد للهالذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة ) رواه الترمذي ، وأحيانايقول : ( الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم ، منّ علينا فهدانا ، وأطعمناوسقانا ، وكل بلاء حسن أبلانا ، الحمد لله الذي أطعم من الطعام ، وسقى منالشراب ، وكسا من العري ، وهدى من الضلالة ، وبصر من العمى ، وفضل علىكثير ممن خلق تفضيلا ، الحمد لله رب العالمين ) رواه ابن حبان في صحيحه .
ثم إن من هديه – صلى الله عليه وسلم – الأكل باليمين ومما يليه، فقد جاءعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينهوإذا شرب فليشرب بيمينه ، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ) رواهمسلم ، وثبت عن عمر بن أبي سلمة قال : أكلت مع النبي صلى الله عليه وسلمفقال: ( سَمََّ الله وكُلْ بيمينك وكُلْ مما يليك ) متفق عليه.
وكانمن هديه – صلى الله عليه وسلم – في تناوله طعامه ، أنه يأكل بأصابعهالثلاثة، وكان يلعقها إذا فرغ من طعامه ، فعن كعب بن مالك رضي الله عنهقال: ( رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم-يأكل بثلاث أصابع ، فإن فرغلعقها ) رواه مسلم ، يقول الإمام ابن القيم في زاد المعاد: " وهو أشرف مايكون من الأكلة ، فإن المتكبر يأكل بأصبع واحدة ، والجشع الحريص يأكلبالخمس ، ويدفع بالراحة " .
وإذا تتبّعنا ما كان يأكله النبي – صلىالله عليه وسلم – لمسنا عدم تكلّفه ، فقد ورد عنه أكل الحلوى والعسل ،وأكل الرطب والتمر ، وشرب اللبن خالصا ومشوباً –أي مخلوطاً بغيره - ،والسويق – وهو طعام يُصنع من الحنطة والشعير - ، وأكل الأقط – اللبنالمجفف - ، وأكل التمر بالخبز ، وأكل الخبز بالخل أو الزيت ، وأكل الثريد- وهو الخبز باللحم - ، وأكل الخبز بالشحم المذاب ، وغير ذلك مما ورد فيالسنّة .
لكنه عليه الصلاة والسلام كان يفضّل أنواعاً من الأطعمة ،فقد كان يحب البقل والقثّاء – وهو الخيار - ، والدّباء (وهو القرع) ، وروىعنه خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان يتتبّع الدباء من حواليالقصعة ، متفق عليه .
وكان عليه الصلاة والسلام يحبّ الثريد بشكلٍخاص ، حتى جعل فضل عائشة رضي الله عنها على سائر نسائه كفضل الثريد علىسائر الطعام ، متفق عليه ، وكان – صلى الله عليه وسلم يحبّ من اللحم الظهروالكتف ، وكان يقول : (أطيب اللحم لحم الظهر ) صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوة ، فرُفع إليه الذراع وكانت تعجبه ، متفق عليه .
وكثيراً ماكان الصحابة يدعون النبي – صلى الله عليه وسلم - ، فيقبل دعوتهم ، ويأكلمن ولائمهم ، كما حصل في غزوة الخندق وغيرها ، وكان عليه الصلاة والسلاميدعو لصاحب الطعام فيقول: ( أفطر عندك الصائمون ، وأكل طعامكم الأبرار ،وصلّت عليكم الملائكة ) رواه أبو داود .
لكنّه عليه الصلاة والسلاملم يكن يقبل الطعام الذي جاء على سبيل الصدقة بخلاف ماجاء عن طريق الهديّة، فإنّ الصدقة تحمل في معانيها الرحمة والمسكنة ، فلذلك كانت الصدقةمحرّمة عليه وعلى ذرّيته صيانةً لهم وإعلاءً لشأنهم كما صحّ بذلك الحديث ،والحال أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يسأل عن الطعام الذي يأتيه ،فإن كان هدية قبله ، وإن كان صدقة قال لأصاحبه : (كلوا) رواه البخاري .
ومن كمال هديه – صلى الله عليه وسلم – في الطعام أنه كان لايرد موجوداًولا يتكلف مفقوداً ، فما قُرَّب إليه شيء من الطيبات إلا أكله ، إلا أنتعافه نفسه فيتركه من غير تحريم ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "ما عاب النبي- صلى الله عليه وسلم - طعاماً قط ، إن اشتهاه أكله وإن كرههتركه " رواه البخاري و مسلم .
ومن الأطعمة التي ثبت أن النبي – صلىالله عليه وسلم – كان يكرهها ويعافها ، لحم الضبّ ، ويبيّن سبب ذلك بقوله: ( ...ولكنه لا يكون بأرض قومي فأجدني أعافه ) متفق عليه .
وصحّعن النبي – صلى الله عليه وسلم – كراهيّته لأكل الثوم ، وذلك لأجل ريحه ،فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كان إذا أكل طعاماً بعث بفضله إلى أبي أيوب ، فأتى يوماً بقصعة فيها ثومفبعث بها ، فقال أبو أيوب : يا رسول الله ، أحرام هو ؟ ، فقال له : ( لا ،ولكني أكره ريحه ) رواه أحمد .
ويظهر من سيرة النبي – صلى اللهعليه وسلم – أنه لم يكن يأنف من تناول الطعام مع أيّ شخص ، مهما كان عمرهأو وضعه الاجتماعي ، تواضعاً منه عليه الصلاة والسلام .
أما عنهديه – صلى الله عليه وسلم – في شرابه فقد كان يشرب باليمين ،كما ورد ذلكفي الأكل ، وكان يشرب الماء على ثلاث دفعات ، كما جاء عن أنس بن مالك رضيالله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- كان يتنفس إذا شرب ثلاثاًرواه البخاري و مسلم ، وفي رواية أخرى: كان رسول الله يتنفس في الشرابثلاثاً ويقول : ( إنه أروى وأبرأ وأمرأ ) ، فهديه – صلى الله عليه وسلم -في شرب الماء أنه يقسم شرابه إلى ثلاثة أجزاء يتنفس بينها، مبعداً الإناءعن فيه وعن نفسه وقاية له من التلوث ، وكان ينهى عن التنفس في الإناء ،كما ثبت ذلك عنه بقوله – صلى الله عليه وسلم - : ( إذا شرب أحدكم فلايتنفس في الإناء ) رواه البخاري .
ومن هديه - صلى الله عليه وسلم- في ذلك ، أنه كان قليلاً ما يشرب قائماً ، حتى قال - صلى الله عليهوسلم- : ( لا يشربن أحدكم قائماً ) رواه مسلم ، وورد عنه أنه شرب قائماً ،فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: " سقيت رسول الله - صلى اللهعليه وسلم- فشرب وهو قائم" رواه البخاري و مسلم ، وذكر العلماء في الجمعبين أحاديث النهي والإباحه أن النهي محمول على كراهة التنزيه ، وشربه –صلى الله عليه وسلم - قائماً بيان للجواز.
ومن الآداب التي سنّهارسول الله – صلى الله عليه وسلم - والمتعلّقة بالشرب عند اجتماع الناس -أن يكون ساقي القوم هو آخر من يشرب ، فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي– صلى الله عليه وسلم – قال : ( إن ساقي القوم آخرهم شربا ) رواه مسلم ،وأن يكون تقديم الشراب باعتبار الجهة لا السنّ والمكانة ، يوضّح ذلك حديثأنس بن مالك رضي الله عنه أن شاةً حُلبت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم– ، وكان على يساره عليه الصلاة والسلام أبو بكر ، وعن يمينه أعرابي ،فأمر أنس أن يعطي الأعرابي ، وقال له : ( الأيمن فالأيمن ) متفق عليه .
وأكثرما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يحبّ شربه : اللبن ، حتى كان يقول فيحقّه : ( ليس شيء يجزئ مكان الطعام والشراب غير اللبن ) رواه الترمذي ،وكان يخصّص له من الشكر ما ليس لغيره من الأطعمة ، وقد روى ابن عباس رضيالله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال : ( من أطعمه اللهالطعام فليقل : اللهم بارك لنا فيه ، وأطعمنا خيراً منه ، ومن سقاه اللهلبناً فليقل : اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه ) رواه الترمذي .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم – يعجبه شرب الماء العذب البارد ، ويطلب أن يُحضر له من الآبار ، كما ثبت في السنن .
وهكذاتبقى السنة النبوية هي الأكمل أدباً ، والأعظم أجراً ، والأحفظ لمكارمالأخلاق ، إضافةً إلى ما يترتّب عليها من المحافظة على صحّة البدن ونضارته، فصلوات الله وسلامه على معلّم البشريّة .