نبذة:
أرسلالله رسولين لإحدى القرى لكن أهلا كذبوهما، فأرسل الله تعالى رسولا ثالثايصدقهما. ولا يذكر ويذكر لنا القرآن الكريم قصة رجل آمن بهم ودعى قومهللإيمان بما جاؤوا بهن لكنهم قتلوه، فأدخله الله الجنة.
المسيرة
سيرته:
يحكيالحق تبارك وتعالى قصة أنبياء ثلاثة بغير أن يذكر أسمائهم. كل ما يذكرهالسياق أن القوم كذبوا رسولين فأرسل الله ثالثا يعزرهما. ولم يذكر القرآنمن هم أصحاب القرية ولا ما هي القرية. وقد اختلفت فيها الروايات. وعدمإفصاح القرآن عنها دليل على أن تحديد اسمها أو موضعها لا يزيد شيئاً فيدلالة القصة وإيحائها. لكن الناس ظلوا على إنكارهم للرسل وتكذيبهم، وقالوا(قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ).
وهذاالاعتراض المتكرر على بشرية الرسل تبدو فيه سذاجة التصور والإدراك, كمايبدو فيه الجهل بوظيفة الرسول. قد كانوا يتوقعون دائماً أن يكون هناك سرغامض في شخصية الرسول وحياته تكمن وراءه الأوهام والأساطير.. أليس رسولالسماء إلى الأرض فكيف يكون شخصية مكشوفة بسيطة لا أسرار فيها ولا ألغازحولها ?! شخصية بشرية عادية من الشخصيات التي تمتلىء بها الأسواق والبيوت?!
وهذه هي سذاجة التصور والتفكير. فالأسرار والألغاز ليست صفةملازمة للنبوة والرسالة. فالرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية. وحياة الرسولهي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك المنهج الإلهي. النموذج الذي يدعو قومهإلى الاقتداء به. وهم بشر. فلا بد أن يكون رسولهم من البشر ليحقق نموذجاًمن الحياة يملكون هم أن يقلدوه.
وفي ثقة المطمئن إلى صدقه,العارف بحدود وظيفته أجابهم الرسل: إن الله يعلم، وهذا يكفي. وإن وظيفةالرسل البلاغ. وقد أدوه. والناس بعد ذلك أحرار فيما يتخذون لأنفسهم منتصرف. وفيما يحملون في تصرفهم من أوزار. والأمر بين الرسل وبين الناس هوأمر ذلك التبليغ عن الله; فمتى تحقق ذلك فالأمر كله بعد ذلك إلى الله.
ولكنالمكذبين الضالين لا يأخذون الأمور هذا المأخذ الواضح السهل اليسير; ولايطيقون وجود الدعاة إلى الهدى ويعمدون إلى الأسلوب الغليظ العنيف فيمقاومة الحجة لأن الباطل ضيق الصدر. قالوا: إننا نتشاءم منكم; ونتوقع الشرفي دعوتكم; فإن لم تنتهوا عنها فإننا لن نسكت عليكم, ولن ندعكم في دعوتكم: (لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ). هكذا أسفر الباطل عن غشمه; وأطلق على الهداة تهديده; وبغى في وجه كلمة الحق الهادئة!
ولكنالواجب الملقى على عاتق الرسل يقضي عليهم بالمضي في الطريق: (قَالُواطَائِرُكُمْ مَعَكُمْ). فالقول بالتشاؤم من دعوة أو من وجه هو خرافة منخرافات الجاهلية. والرسل يبينون لقومهم أنها خرافة; وأن حظهم ونصيبهم منخير ومن شر لا يأتيهم من خارج نفوسهم. إنما هو معهم. مرتبط بنواياهموأعمالهم, متوقف على كسبهم وعملهم. وفي وسعهم أن يجعلوا حظهم ونصيبهمخيراً أو أن يجعلوه شراً. فإن إرادة الله بالعبد تنفذ من خلال نفسه, ومنخلال اتجاهه, ومن خلال عمله. وهو يحمل طائره معه. هذه هي الحقيقة الثابتةالقائمة على أساس صحيح. أما التشاؤم بالأمكنة أو التشاؤم بالوجوه أوالتشاؤم بالكلمات، فهو خرافة لا تستقيم على أصل!
وقالوا لهم: (أَئِن ذُكِّرْتُم)أترجموننا وتعذبوننا لأننا نذكركم! أفهذا جزاء التذكير? (بَلْ أَنتُمْقَوْمٌ مُّسْرِفُونَ) تتجاوزون الحدود في التفكير والتقدير; وتجازون علىالموعظة بالتهديد والوعيد; وتردون على الدعوة بالرجم والتعذيب!
ما كان من الرجل المؤمن:
لايقول لنا السياق ماذا كان من أمر هؤلاء الأنبياء، إنما يذكر ما كان من أمرإنسان آمن بهم. آمن بهم وحده.. ووقف بإيمانه أقلية ضعيفة ضد أغلبية كافرة.إنسان جاء من أقصى المدينة يسعى. جاء وقد تفتح قلبه لدعوة الحق.. فهذا رجلسمع الدعوة فاستجاب لها بعد ما رأى فيها من دلائل الحق والمنطق. وحينمااستشعر قلبه حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليهاسكوتاً; ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله والجحودوالفجور; ولكنه سعى بالحق الذي آمن به. سعى به إلى قومه وهم يكذبونويجحدون ويتوعدون ويهددون. وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه فيدعوة قومه إلى الحق, وفي كفهم عن البغي, وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذييوشكون أن يصبوه على المرسلين.
ويبدو أن الرجل لم يكن ذا جاه ولاسلطان. ولم تكن له عشيرة تدافع عنه إن وقع له أذى. ولكنها العقيدة الحيةفي ضميره تدفعه وتجيء به من أقصى المدينة إلى أقصاها.
فقال لهم: اتبعواهؤلاء الرسل، فإن الذي يدعو مثل هذه الدعوة, وهو لا يطلب أجراً, ولا يبتغيمغنماً. إنه لصادق. وإلا فما الذي يحمله على هذا العناء إن لم يكن يلبيتكليفاً من الله? ما الذي يدفعه إلى حمل هم الدعوة? ومجابهة الناس بغير ماألفوا من العقيدة? والتعرض لأذاهم وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم, وهو لا يجنيمن ذلك كسباً, ولا يطلب منهم أجراً? وهداهم واضح في طبيعة دعوتهم. فهميدعون إلى إله واحد. ويدعون إلى نهج واضح. ويدعون إلى عقيدة لا خرافة فيهاولا غموض. فهم مهتدون إلى نهج سليم, وإلى طريق مستقيم.
ثم عاديتحدث إليهم عن نفسه هو وعن أسباب إيمانه, ويناشد فيهم الفطرة التياستيقظت فيه فاقتنعت بالبرهان الفطري السليم. فلقد تسائل مع نفسه قبلإئمانه، لماذا لا أعبد الذي فطرني؟ والذي إليه المرجع والمصير? وما الذييحيد بي عن هذا النهج الطبيعي الذي يخطر على النفس أول ما يخطر? إن الفطرمجذوبة إلى الذي فطرها, تتجه إليه أول ما تتجه, فلا تنحرف عنه إلا بدافعآخر خارج على فطرتها. والتوجه إلى الخالق هو الأولى.
ثم يبين ضلالالمنهج المعاكس. مهج من يعبد آلهة غير الرحمن لا تضر ولا تنفع. وهل أضلممن يدع منطق الفطرة الذي يدعو المخلوق إلى عبادة خالقه, وينحرف إلى عبادةغير الخالق بدون ضرورة ولا دافع? وهل أضل ممن ينحرف عن الخالق إلى آلهةضعاف لا يحمونه ولا يدفعون عنه الضر حين يريد به خالقه الضر بسبب انحرافهوضلاله?
والآن وقد تحدث الرجل بلسان الفطرة الصادقة العارفةالواضحة يقرر قراره الأخير في وجه قومه المكذبين المهددين المتوعدين. لأنصوت الفطرة في قلبه أقوى من كل تهديد ومن كل تكذيب: (إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) هكذا ألقى بكلمة الإيمان الواثقة المطمئنة. وأشهدهم عليها. وهو يوحي إليهم أن يقولوها كما قالها. أو أنه لا يبالي بهم ماذا يقولون!
استشهاد الرجل ودخوله الجنة:
ويوحيسياق القصة بعد ذلك القوم الكافرين قتلوا الرجل المؤمن. وإن كان لا يذكرشيئاً من هذا صراحة. إنما يسدل الستار على الدنيا وما فيها, وعلى القوموما هم فيه; ويرفعه لنرى هذا الشهيد الذي جهر بكلمة الحق, متبعاً صوتالفطرة, وقذف بها في وجوه من يملكون التهديد والتنكيل. نراه في العالمالآخر. ونطلع على ما ادخر الله له من كرامة. تليق بمقام المؤمن الشجاعالمخلص الشهيد: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِييَعْلَمُونَ .. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).
وتتصلالحياة الدنيا بالحياة الآخرة. ونرى الموت نقلة من عالم الفناء إلى عالمالبقاء. وخطوة يخلص بها المؤمن من ضيق الأرض إلى سعة الجنة. ومن تطاولالباطل إلى طمأنينة الحق. ومن تهديد البغي إلى سلام النعيم. ومن ظلماتالجاهلية إلى نور اليقين.
ونرى الرجل المؤمن. وقد اطلع على ماآتاه الله في الجنة من المغفرة والكرامة, يذكر قومه طيب القلب رضي النفس,يتمنى لو يراه قومه ويرون ما آتاه ربه من الرضى والكرامة, ليعرفوا الحق,معرفة اليقين.
إهلاك أصحاب القرية بالصيحة:
هذاكان جزاء الإيمان. فأما الطغيان فكان أهون على الله من أن يرسل عليهالملائكة لتدمره. فهو ضعيف ضعيف: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنبَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ .. إِنكَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ). لا يطيل هنافي وصف مصرع القوم, تهويناً لشأنهم, وتصغيراً لقدرهم. فما كانت إلا صيحةواحدة أخمدت أنفاسهم. ويسدل الستار على مشهدهم البائس المهين الذليل!
تجاوزالسياق أسماء الأنبياء وقصصهم ليبرز قصة رجل آمن.. لم يذكر لنا السياقاسمه. اسمه لا يهم.. المهم ما وقع له.. لقد آمن بأنبياء الله.. قيل لهادخل الجنة. ليكن ما كان من أمر تعذيبه وقتله. ليس هذا في الحساب النهائي شيئا له قيمته. تكمن القيمة في دخوله فور إعلانه أنه آمن. فور قتله.