تناولت الأمثال القرآنية كثيرًا من القضايا التي تحيط بالإنسان في هذهالحياة؛ كقضايا الكفر والإيمان، والإيمان والنفاق، والهدى والضلال، والعلموالجهل، والخير والشر، والغنى والفقر، والحياة الدنيا والحياة الآخرة،وغير ذلك من القضايا .
ومن بين تلك القضايا التي تناولتها الأمثلة القرآنية قضية الحق والباطل، قال تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا وممايوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحقوالباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلكيضرب الله الأمثال } (الرعد:14) .
هذه الآية الكريمة فيجملتها تبين أن الذي يصح ويبقى في هذه الحياة، وينتفع به الناس غايةالانتفاع إنما هو الحق. وبالمقابل فإن كل ما كان خلاف ذلك من أنواع الباطللا وزن له ولا قيمة ولا اعتبار، وسرعان ما يزول ويضمحل .
فهذهالآية تضمنت مثلين حسيَّين، يراد منهما إيصال فكرة واحدة، مفادها: أن الحقهو المنتصر في النهاية، وهو صاحب الكلمة الفصل في معركة الحياة، وأنالباطل هو الخاسر والمنهزم في المحصلة؛ فالمثل الأول وهو قوله تعالى: { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا }مضروب للماء الذي يُنـزله الله من السماء، فيتدفق في الأرض، فيملأ الأوديةالتي تشكل سيولاً جارفة، تحمل معها كل ما تصادفه في طريقها من القش والورقوالفضلات وغير ذلك مما لا قيمة له في الحقيقة. ثم إن هذه السيول الجارفةتشكل على سطحها رغوة بيضاء على شكل فقاعات، سرعان ما يتلاشى شكلها، وينطفئلونها. ويبقى الماء وحده هو الذي ينتفع به الناس، حيث يرفد الأنهار، ويغذيالينابيع، ويحمل معه الخير، فيحلُّ الخصب بعد الجدب، والنماء بعد القحط،والخير بعد الشح .
والمثل الثاني هو قوله تعالى: { ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله }ضربه سبحانه للنار الحامية التي تعرض عليها المعادن بأنواعها، ومنها الذهبوالفضة، بقصد إزالة شوائبها وما خبث فيها، وفي أثناء عرضها على تلك النارتطفو على سطحها طبقة سائلة أشبه بالرغوة البيضاء التي تطفو على سطح الماء،لكنها سرعان ما تتلاشى في الهواء وتضمحل هنا وهناك، ويبقى جوهر المعدنالأصيل الذي ينتفع به الناس، فيصنعون منه أدواتهم، ويستعينون به على قضاءحوائجهم .
كذلك الحق والباطل في هذه الحياة؛ فالباطل قد يظهر،ويعلو، ويبدو أنه صاحب الجولة والكلمة، لكنه أشبه ما يكون بتلك الرغوةالبيضاء التي تطفو على سطح ماء السيل، والمعدن المذاب، سرعان ما تذهبوتغيب، من غير أن يلتفت إليها أحد. في حين أن الحق، وإن بدا لبعضهم أنه قدانزوى أو غاب أو ضاع أو مات، لكنه هو الذي يبقى في النهاية، كما يبقىالماء الذي تحيى به الأرض بعد موتها، والمعدن الصافي الذي يستفيد منهالناس في معاشهم حلية أو متاعاً .
على أن في الآية الكريمة - غيرما تقدم - وجهاً آخر من التمثيل، ذكره بعض أهل العلم، وهو أن الماء الذيضرب الله به المثل في هذه الآية، إنما المراد منه العلم والهدى الذي يبعثهالله على عباده عن طريق أنبيائه ورسله ودعاته، فيأخذ الناس منه حظهم، بقدرما ييسرهم الله له، ويوفقهم إليه. فتكون عناصر التمثيل في هذه الآية -بحسب هذا الوجه - وفق التالي: الماء مراد به العلم والهدى. والأودية مرادمنها القلوب التي تتلقى العلم والهدى. وسيلان الأودية بقدرها مراد منه حظالقلوب في قبول وتلقي ذلك العلم. والزبد الذي يطفو على سطح الماء والمعادنمراد منه الأباطيل والشكوك والشبهات والشهوات التي تنتاب الإنسان. ومايبقى من الماء الصافي بعد مضي السيل، والمعدن النقي بعد عرضه على النارمراد منه الحق الذي يبقى على مر الأيام والسنين؛ لأن من صفاته الثبات ومنخصائصه البقاء .
ووجه التمثيل - وفق هذا المسلك - أن السيلالجارف والمعدن المذاب كما يذهب زبدهما هنا وهناك، من غير اكتراث ولااهتمام، فكذلك الأباطيل والشكوك تذهب من قلب المؤمن وتتلاشى ليحل مكانهاالإيمان والهدى، الذي ينفع صاحبه، وينتفع به غيره .
وقد روى الطبري عن ابن عباسرضي الله عنهما قوله في هذه الآية: هذا مثل ضربه الله، احتملت منه القلوبعلى قدر يقينها وشكها. فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفعالله به أهله، وهو قوله: { فأما الزبد فيذهب جفاء }، وهو الشك، { وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض }، وهو اليقين، كما يجعل الحلي في النار، فيؤخذ خالصة، ويترك خبثه في النار. فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك .
وعلى نحو هذا التمثيل في الآية جاء قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضاً فكانمنها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادبأمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفةأخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دينالله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً،ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ) متفق عليه .
والذي يستفاد من التمثيل الوارد في الآية جملة أمور:
أولها:أن العاقبة للمؤمنين، وأن الحق منتصر لا شك في ذلك، وإن كان الواقع يدلعلى غير ذلك؛ وأن الباطل لا محالة زائل، وإن كان في يوم من الأيام ممسكاًبالراية ورافعاً لها .
ثانيها: أن العمل الصالح هو الذي يبقى لصاحبه، وهو الذي يرجى منه الخير في الدنيا والآخرة، وأن العمل السيئ يذهب ولا يفيد صاحبه شيئاً .
ثالثها: أن العلم والهدى هو الذي ينفع المؤمن في هذه الحياة، وأن الشك والباطل لا يغنيا ولن يغنيا من الحق شيئاً .
أخيراً، يقول ابن القيم : إن من لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما .
وقد قال بعض السلف: كنت إذا قرأت مثلاً من القرآن فلم أفهمه، بكيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: { وما يعقلها إلا العالمون } (العنكبوت:43) .