﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾
﴿لإِيلافِقُرَيْشٍ(1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)فَلْيَعْبُدُوا رَبَّهَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْجُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْخَوْفٍ (4)﴾
البسملة تقدم الكلام عليها.
هذهالسورةلها صلة بالسورة التي قبلها، إذ أن السورة التي قبلها فيها بيانمنة اللهعز وجل على أهل مكة بما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا مكة لهدمالكعبة،فبين الله في هذه السورة نعمة أخرى كبيرة على أهل مكة، (على قريش)وهي إيلافهم مرتين في السنة، مرة في الصيف ومرة في الشتاء، {لإيلاف قريش. إيلافهم رحلة الشتاء والصيف}والإلافبمعنى الجمع والضم، ويراد به التجارة التي كانوا يقومون بها مرةفي الشتاء،ومرة في الصيف، أما في الشتاء فيتجهون نحو اليمن للمحصولاتالزراعية فيه،ولأن الجو مناسب، وأما في الصيف فيتجهون إلى الشام لأن غالبتجارة الفواكهوغيرها تكون في هذا الوقت في الصيف مع مناسبة الجو البارد،فهي نعمة منالله سبحانه وتعالى على قريش في هاتين الرحلتين؛ لأنه يحصلمنها فوائدكثيرة ومكاسب كبيرة من هذه التجارة، أمرهم الله أن يعبدوا ربهذا البيتقال: {فليعبدوا رب هذا البيت} شكراً له على هذه النعمة، والفاءهذه إما أنتكون فاء السببية، أي فبسبب هاتين الرحلتين ليعبدوا رب هذاالبيت، أو أنتكون فاء التفريع، وأيًّا كان فهي مبنية على ما سبق، أيفبهذه النعمالعظيمة يجب عليهم أن يعبدوا الله، والعبادة هي التذلل لله عزوجل محبةوتعظيماً. أن يتعبد الإنسان لله يتذلل له بالسمع والطاعة، فإذابلغه عنالله ورسوله أمر قال: سمعنا وأطعنا، وإذا بلغه خبر قال: سمعناوآمنا، علىوجه المحبة والتعظيم، فبالمحبة يقوم الإنسان بفعل الأوامر،وبالتعظيم يتركالنواهي خوفاً من هذا العظيم عز وجل، هذا معنى من معانيالعبادة، وتطلقالعبادة على نفس المتعبد به، وقد حدّها شيخ الإسلام ابنتيمية ـ رحمه اللهـ بهذا المعنى فقال: إن العبادة اسم جامع لكل ما يحبهالله ويرضاه، منالأقوال، والأعمال الظاهرة، والباطنة. وقوله: {رب هذاالبيت} يعني بهالكعبة المعظمة، وقد أضافها الله تعالى إلى نفسه في قولهتعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[الحج: 26]. وهنا أضاف ربوبيته إليه قال: {رب هذا البيت} وإضافةالربوبيةإليه على سبيل التشريف والتعظيم {طهر بيتي للطائفين} أضاف اللهالبيت إليهتشريفاً وتعظيماً، إذاً خصص البيت بالربوبية مرة، وأضافه إلىنفسه مرة أخرىتشريفاً وتعظيماً، وفي آية ثانية قال: {إنما أمرت أن أعبدرب هذه البلدةالذي حرمها} وبعدها قال: {وله كل شيء} احتراز من أن يتوهمواهم بأنه ربالبلدة وحدها فقال: {وله كل شيء}، ولكل مقام صيغة مناسبة،ففي قوله: {إنماأمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء}[النمل: 91]. مناسبةبيان عموم ملكه، لئلا يدعي المشركون أنه رب للبلدةفقط، أما هنا فالمقاممقام تعظيم للبيت فناسب ذكره وحده قوله: {الذيأطعمهم من جوع وآمنهم منخوف} {الذي} هذه صفة للرب، إذاً فمحلها النصب،ولهذا يحسن أن تقف فتقول{فليعبدوا رب هذا البيت} ثم تقول: {الذي أطعمهم}لأنك لو وصلت فقلت: «ربهذا البيت الذي أطعمهم» لظن السامع أن «الذي» صفةللبيت، وهذا بعيد منالمعنى ولا يستقيم به المعنى. {الذي أطعمهم من جوعوآمنهم من خوف} بين اللهنعمته عليهم، النعمة الظاهرة والباطنة، فإطعامهممن الجوع وقاية من الهلاكفي أمر باطن، وهو الطعام الذي يأكلونه، {وآمنهممن خوف} وقاية من الخوف فيالأمر الظاهر؛ لأن الخوف ظاهر، إذا كانت البلادمحوطة بالعدو، وخاف أهلهاوامتنعوا عن الخروج، وبقوا في ملاجئهم، فذكرهمالله بهذه النعمة، {وآمنهممن خوف} آمن مكان في الأرض هو مكة، ولذلك لايُقطع شجرها، ولا يُحش حشيشها،ولا تُلتقط ساقطتها، ولا يصاد صيدها، ولايسفك فيها دم، وهذه الخصائص لاتوجد في البلاد الأخرى حتى المدينة، محرمةولها حرم، لكن حرمها دون حرم مكةبكثير، حرم مكة لا يمكن أن يأتيه أحد منالمسلمين لم يأتها ولا مرة إلامحرماً، والمدينة ليست كذلك، حرم مكة يحرمحشيشه وشجره مطلقاً، وأما حرمالمدينة فرخص في بعض شجره للحرث ونحوه. صيدمكة حرام وفيه الجزاء، وصيدالمدينة ليس فيه الجزاء، فأعظم مكان آمن هومكة، حتى الأشجار آمنة فيه،وحتى الصيود آمنة فيه، ولولا أن الله تعالىيسر على عباده لكان حتى البهائمالتي ليست صيوداً تحرم، لكن الله تعالىرحم العباد وأذن لهم أن يذبحواوينحروا في هذا المكان. وهذه النعمة ذكرهمالله بها في قوله:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}[العنكبوت:67]. يعني أفلا يشكرون الله على هذا؟! فهذه السورة كلها تذكيرلقريش بماأنعم الله عليهم في هذا البيت العظيم، وفي الأمن من الخوف، وفيالإطعام منالجوع.
فإذا قال قائل: ما واجب قريش نحو هذه النعمة؟ وكذلك ما واجب من حلّ في مكة الآن من قريش أو غيرهم؟
قلنا:الواجبالشكر لله تعالى بالقيام بطاعته، بامتثال أمره واجتناب نهيه. ولهذاإذاكثرت المعاصي في الحرم فالخطر على أهله أكثر من الخطر على غيرهم،لأنالمعصية في مكان فاضل أعظم من المعصية في مكان مفضول، ولهذا قالاللهتعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الحج: 25]. فتوعد الله تعالى من أراد فيه أي من هم فيه بإلحاد فضلاًعمنألحد. والواجب على المرء أن يذكر نعمة الله عليه في كل مكان، لا فيمكةفحسب، فبلادنا ـ ولله الحمد ـ اليوم من آمن بلاد العالم، وهي من أشدبلادالعالم رغداً وعيشاً. أطعمنا الله تعالى من الجوع، وآمننا من الخوف،فعليناأن نشكر هذه النعمة، وأن نتعاون على البر والتقوى، وعلى الأمربالمعروفوالنهي عن المنكر، وعلى الدعوة إلى الله على بصيرة وتأنٍ وتثبت،وأن نكونإخوة متآلفين، والواجب علينا ولاسيما على طلبة العلم إذا اختلفوافيمابينهم أن يجلسوا للتشاور، وللمناقشة الهادئة التي يقصد منها الوصولإلىالحق، ومتى تبين الحق للإنسان وجب عليه اتباعه، ولا يجوز أن ينتصرلرأيه؛لأنه ليس مشرعاً معصوماً حتى يقول إن رأيه هو الصواب، وأن ما عداههوالخطأ. الواجب على الإنسان المؤمن أن يكون كما أراد الله منه، {وَمَاكَانَلِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُأَمْرًا أَنْيَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِاللَّهَوَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا } [الأحزاب:36]. أماكون الإنسان ينتصر لرأيه ويصر على ما هو عليه، ولو تبين له أنهباطل فهذاخطأ، وهذا من دأب المشركين الذين أبوا أن يتبعوا الرسول وقالوا:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}[الزخرف: 22]. نسأل الله أن يديم علينا نعمة الإسلام، والأمن فيالأوطان،وأن يجعلنا إخوة متآلفين على كتاب الله وسنة رسول الله صلى اللهعليه وعلىآله وسلم، إنه على كل شيء قدير.